أصبح وجود العمال الأجانب عنصرا لا غنى عنه في مشهد مدينتنا. فهم الذين يعملون في مشاريع تجديد مستشفياتنا وفي المتاجر والمحلات التجارية هم الذين يعيدون لنا باقي النقود وكذلك يُقدمون لنا القهوة في المقاهي، لكننا غالبا ما نتعرف عليهم من خلال حقائبهم الخضراء او الصفراء او الزرقاء التي يوصلون بها الطعام والحاجيات المنزلية او حتى الغسيل.

قبل عشر سنوات فقط لم تكن شوارع مدننا مليئة بحقائب توصيل ملونة. وعدت المنصات الرقمية اثناء دخولها الى السوق الكرواتية في العام 2018 بأرباح سريعة وساعات عمل مرنة وفق رغبة العامل. وُعِدَ العمال (أو "الشركاء" كما تسميهم هذه المنصات الرقمية) بأنهم سيكونون ارباب عملهم بنفسهم وسيعملون كما يشاؤون وبالإمكانات التي يريدونها. في البداية كان هذا "الحلم" بالمرونة معطى للعمال المحليين.

قدمت هذه المنصات الرقمية عند دخولها السوق لأول مرة ظروف عمل جيدة (أجور عالية نسبيا ومكافآت) في محاولة لجذب العمال والزبائن. لكن سرعان ما واجه العمال الواقع القاسي للعمل بالرغم من الوعود الكبيرة: كالعمل دون عقود أو لساعات تفوق ما ينص عليه العقد او غياب أي نوع من الحماية او التنصل من حقوقهم او تحميلهم كافة المسؤولية عن آلات او ادوات العمل مثل تأمين السيارات. أما موضوع "المرونة في ساعات العمل" فبقي مجرد خيال حيث في كثير من الأحيان يجبر العمال على استخدام التطبيق في أوقات مخصصة وخاصة في فترات الذروة.

تحذر النقابات منذ سنوات من هكذا نمط في تشغيل العمال، وهو النمط التي تتبعه المنصات الرقمية أينما عملت. ويشير النقاد إلى أن المنصات الرقمية تعتمد بشكل متزايد على التعاقد عبر قنوات غير مباشرة أي انه يتم تشغيل العمال من خلال وسطاء مما يزيد من المسافة القانونية بين المنصة الرقمية والعامل وهذا يُجنّب المنصة الرقمية أي التزامات تجاههم.

وقد كتب المعهد الأوروبي للنقابات" : (ETUI)لقد اعتمدت واختبرت وطورت المنصات الرقمية أساليب المراقبة المستمرة والإدارة المتقلبة وجدولة العمل غير المتوقعة والانضباط غير الواضح".

ليس العمل في ظروف قاسية شيء جديدا على عمال التوصيل فهم يقضون يوميا ساعات طويلة في الشوارع وفي زحمة المرور على الدراجات الهوائية أو النارية أو في السيارات لتأدية عملهم. خلال فترة جائحة فايروس كورونا في العام 2020، كانت وظائف التوصيل من بين القليلة المتاحة وقد أثبت عمال التوصيل آنذاك أنهم من "العمال الأكثر أهمية" الذين لا غنى عنهم حيث قاموا بتوصيل الطعام والدواء والحاجيات الأخرى.

منذ البداية وبالأخص عند الحديث عن عمال التوصيل كان تنظيم العمل في كرواتيا عبر المنصات الرقمية قائما إما على "العمل الحر" (من خلال شركات أو شركات حِرَفية غالبا بنظام الضرائب الثابتة) أو عبر وسطاء يعرفون بـ "المجمعين - agregatori" (وهم وسطاء بين المنصة الرقمية والعامل يوظفون مقابل نسبة من الدخل). بدأت بمرور الوقت بعض المنصات الرقمية في توظيف بعض العمال مباشرة لكن العدد الدقيق غير معروف.

وقد نظم العمال في مبادرة "ReWolt" احتجاجات للتنديد بظاهرة "المجمعين - agregatori "، أو كما لقبوا من قبل البعض بـ "التماسيح"، وطالبوا بإلغائهم. يعمل المجمعون – agregatori في حيز مشبوه قانونيا حيث يأخذون عمولة من العمال دون تحمل التزامات ارباب العمل. وقد أشار أعضاء ReWolt إلى أن العمال يتحملون وحدهم تكاليف العمل بما في ذلك المركبة والوقود بينما يدفعون للمنصات الرقمية وللمجمعين - agregatori أيضا.

لكن "التماسيح" كُثر وجميعهم يقتطعون من دخل العامل.

شهد سوق العمل تغيرا جذريا في العام 2021 مما أدى إلى فوضى أكبر. فألغت كرواتيا في ذلك العام نظام الحصص (الكوتا) الخاص بإصدار تصاريح العمل وبات الموضوع من دون قيود. أصبح استقدام العمال الأجانب للمهن التي تعاني من نقص في اليد العاملة مسموحا دون قيود بينما يتوجب على أرباب العمل في حالات أخرى المرور بما يُعرف بـ "اختبار السوق" عبر مكتب العمل الكرواتي (HZZ) أي التحقق مما إذا كانت هناك ايدي عاملة متوفرة محليا، فبذلك يمكن لصاحب العمل استقدام عمال من الخارج إذا لم تكن موجودة.

وكان لسنوات عديدة أغلبية العمال الأجانب في كرواتيا من دولتي البوسنة والهرسك وصربيا. أما الان فقد تغيرت الأمور، ففي العام 2024 وحده تم إصدار 206,529 تصريحا للإقامة والعمل وغالبيتها لمواطنين البوسنة والهرسك والنيبال وصربيا والهند والفلبين. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2025 فقط تم إصدار 53,662 تصريحا جديدا معظمها لمواطنين من دولة النيبال.

وبالتالي يستفيد الجميع من وجود العمال الأجانب – المنصات التي تملأ الأماكن الشاغرة للعمل، ارباب العمل الذين يحصلون على قوة عاملة رخيصة غالبا ما يكون عمالها معرضين للابتزاز، ويستفيد أصحاب العقارات أيضا. ولكن من بين أكبر المستفيدين هم الوكالات والمجمعون – agregatori.

غالبا ما يدفع العمال للوكالات مبالغ تتراوح بين 7,500 و10,000 يورو للمجيء إلى كرواتيا. وتزداد المبالغ كلما ارتفع عدد الوسطاء بين العامل وارباب العمل. بل إن بعض الأسر تتحمل ديونا كبيرة لتغطية هذه التكاليف. ويواجه هؤلاء العمال عند وصولهم: مصاريف معيشتهم وتكاليف القروض المأخوذة في بلادهم ومصاريف اعالتهم لأسرهم. غالبا ما تزيد ساعات العمل عن 40 ساعة أسبوعيا وهي المدة القانونية المحددة في قانون العمل. ويبين العمال إنهم في الواقع يعملون أحيانا ستة أيام في الأسبوع، بين 8 إلى 10 ساعات وأحيانا قد تصل الى 12 ساعة عمل يوميا. ويحفز عمال التوصيل من خلال الحصول على أرباح إضافية أي مكافآت يتلقونها استنادا الى عدد عمليات التوصيل التي يقومون بها وبالتالي يحصلون على دخل إضافي فوق رواتبهم التي يتقاضونها والتي غالبا ما تساوي الحد الأدنى. بلغ متوسط الراتب الإجمالي لعمال التوصيل في العام 2024 مبلغ 865.40 يورو قبل الاستقطاع.

تتصاعد الانتقادات المعادية للعمال الأجانب كما تتصاعد عمليات الاستغلال. من الاقوال الشائعة أن "العمال الأجانب خفضوا أجور العمل"، وهو رأي يقسم الرأي العام للسكان المحليين رغم أن من يخفض الأجور فعليا هم أرباب العمل الذين يستغلون الوضع. فالعمال الأجانب يشغلون وظائف لم تعد تجذب العمال المحليين الذين هاجروا منذ سنوات.

وتظهر البيانات أيضا ارتفاعا مذهلا في عدد العاملين الذين يتقاضون الحد الأدنى من الرواتب. ففي تشرين الأول - أكتوبر من العام 2014 (المعروف بعام الازمة) كان عدد العمال الأجانب الذين يتقاضون الحد الأدنى من الراتب يزيد قليلا عن 30,000، أما اليوم فيبلغ العدد حوالي 250,000 وهذا يبين أن العدد تضاعف ثماني مرات في عشر سنوات!

كذلك يتكرر الحديث عن أن العمال الأجانب هم من تسببوا في رفع أسعار الإيجارات رغم أن من يرفع الأسعار فعليا هم أصحاب العقارات الذين يستغلون الطلب المرتفع. يعيش اغلبية العمال الأجانب في ظروف غير إنسانية بالوقت الذي أصبحت فيه ايجارات الشقق السكنية أكبر بكثير من امكانية معظم المواطنين.

وقد سلطت أمينة المظالم أو المدافعة العامة عن الحقوق (Ombudswoman) الضوء في تقريرها للعام 2024 على المشاكل التي يواجهها العمال الأجانب في جميع القطاعات. فقد اشتكى كثير منهم من قضية العمل بدون تصريح إقامة أو عمل، أو من عدم دفع الراتب المتفق عليه أو الموعود به، أو من تلقي جزء من الراتب الشهري نقدا "تحت الطاولة او بالأسود". كما شملت الشكاوى: العمل لساعات إضافية بشكل غير القانوني وعدم احترام حق العمال في الحصول على استراحة اثناء العمل وعدم الإبلاغ عن الإصابات التي حصلت أثناء العمل والتوظيف من دون توقيع عقود عمل وفي بعض الأحيان الفصل من العمل بشكل غير القانوني.

كما وتزايدت الاعتداءات او الجرائم على الأجانب وخاصة على العمال. وفقا لبيانات وزارة الداخلية الكرواتية المذكورة في التقرير فقد تم تسجيل 326 حالة اعتداء ضد الأجانب في كرواتيا بين 1 كانون الثاني - يناير و31 تموز - يوليو 2024، وبلغ عدد المتضررين 527. وازداد بشكل ملحوظ عدد جرائم التهديد وتعريض حياة وممتلكات الأجانب للخطر باستخدام وسائل خطيرة والسرقات العنيفة والسلوك المفرط بالعنف تجاههم.

وقعت واحدة من أكثر الحوادث صدمة في نهاية العام 2024 في مدينة سبليت حيث تعرض عدد من العمال الأجانب لهجمات بالحجارة. اضطر هؤلاء العمال رغم خوفهم بالاستمرار في العمل. وقد نظم بعضهم نوعا من الإضراب الصامت خلال عطلة نهاية الأسبوع التي وقع فيها الاعتداء خوفا مما قد يحدث لهم خاصة وأنهم (بسبب طبيعة عملهم على الدراجات الهوائية او النارية) غالبا ما يكونوا بمفردهم مما يجعلهم أهدافا سهلة. كما سُجلت أيضا حوادث سرقات طعام تحت التهديد وسرقة أموال.

وبينما يستفيد الكثيرون من وجودهم، عادة ما يُفَرَق العمال الأجانب عن المحليين بمصطلحات ازدواجية زائفة كـ "نحن/هم". إن طريقة تعاملنا معهم تعكس كيف نرى أنفسنا. أما على الجانب الآخر من المرآة، فهم أناس قدموا إلى كرواتيا بحثا عن حياة أفضل.